سورة الحديد - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحديد)


        


{الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} بدلٌ من كلِّ مختالٍ، فإنَّ المختالَ بالمالِ يضنُّ به غالباً ويأمرُ غيرَهُ به. أو مبتدأٌ خبرُهُ محذوفٌ يدلُّ عليه قولُه تعالَى: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد} فإنَّ معناهُ ومَنْ يُعرضُ عن الإنفاقِ فإنَّ الله غنيٌّ عنْهُ وعنْ إنفاقه محمودٌ في ذاتِه لا يضرُّه الإعراضُ عن شكرهِ بالتقربِ إليهِ بشيءٍ من نعمهِ، وفيه تهديدٌ وإشعارٌ بأنَّ الأمرَ بالإنفاقِ لمصالحةِ المُنفقِ. وقرئ: {فإنَّ الله الغنيُّ}.
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} أي الملائكةَ إلى الأنبياءِ أو الأنبياءَ إلى الأممِ وهُو الأظهرُ {بالبينات} أي الحججِ والمعجزاتِ {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب} أي جنسَ الكتابِ الشاملِ للكُلِّ {والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط} أي بالعدلِ. رُويَ (أنَّ جبريلَ عليهِ السَّلامُ نزلَ بالميزانِ فدفعَهُ إلى نوحٍ عليهِ السَّلامُ وقالَ مُرْ قومَكَ يزنُوا بهِ)، وقيلَ أُريدَ به العدلُ ليقامَ بهِ السياسةُ ويدفعَ به العُدوانُ. {وَأَنزْلْنَا الحديد} قيلَ: نزلَ آدمُ عليهِ السلام من الجنَّةِ ومعَهُ خمسةُ أشياءَ منْ حديدٍ: السندانُ والكلبتانِ والميقعةُ والمطرقةُ والإبرةُ، ورُويَ ومعَهُ المرُّ والمِسحاتُ. وعنِ الحسنِ: وأنزلنَا الحديدَ خلقنَاهُ كقولِه تعالَى وأنزلَ لكُم من الأنعامِ وذلكَ أنَّ أوامرَهُ تعالَى وقضايَاهُ وأحكامَهُ تنزل من السماءِ. وقولُه تعالى: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} لأنَّ آلاتِ الحروبِ إنَّما تتخذُ منْهُ {ومنافع لِلنَّاسِ} إذْ مَا من صنعةٍ إلاَّ والحديدُ أو ما يُعملُ بالحديدِ آلتُها. والجملةُ حالٌ من الحديدِ. وقولُه تعالَى: {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ} عطفٌ على محذوفٍ يدلُّ عليه ما قبلَهُ فإنَّه حالٌ متضمنةٌ للتعليلِ كأنَّه قيلَ ليستعملُوه وليعلمَ الله علماً يتعلقُ به الجزاءُ من ينصرُه ورسلَهُ باستعمالِ السيوفِ والرماحِ وسائِر الأسلحةِ في مجاهدةِ أعدائِه أو متعلقٌ بمحذوفٍ مؤخرٍ والواوُ اعتراضيةٌ أي وليعلمَ الله مَنْ ينصرُه ورسلَهُ أنزلَه وقيلَ عطفٌ على قولِه تعالَى ليقومَ النَّاسُ بالقسطِ. وقولُه تعالى: {بالغيب} حالٌ من فاعلِ ينصرُ أو مفعولِه أي غائباً عنْهم أو غائبينَ عنه. وقولُه تعالى: {إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ} اعتراضُ تذييليٌّ جىءَ به تحقيقاً للحقِّ وتنبيهاً على أنَّ تكليفَهُم الجهادَ وتعريضَهُم للقتالِ ليسَ لحاجتِه في إعلاءِ كلمتِه وإظهارِ دينِه إلى نصرتِهم بلْ إنَّما هُو لينتفعُوا بهِ ويصلُوا بامتثال الأمر فيه إلى الثوابِ وإلاَّ فهُو غنيٌّ بقدرتِه وعزتِه عنهُم في كلِّ ما يريدُه.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وإبراهيم} نوعُ تفصيلٍ لَما أُجملَ في قولِه تعالَى لقد أرسلنَا رسلنَا إلخ. وتكريرُ القسمِ لإظهار مزيدِ الاعتناءِ بالأمر أيْ وبالله لَقْد أرسلناهُمَا {وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب} يأنِ استنبأناهُم وأوحينَا إليهم الكتبَ وقيلَ المرادُ بالكتابِ الخطُّ بالقلمِ {فَمِنْهُمْ} أي من الذرية أو من المرسل إليهم المدلولِ عليهم بذكر الإرسالِ والمرسلينَ {مُّهْتَدٍ} إلى الحقِّ {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون} خارجونَ عن الطريق المستقيمِ، والعدولُ عن سنن المقابلةِ للمبالغةِ في الذمِّ والإيذانِ بغلبةِ الضُّلالِ وكثرتِهم.


{ثُمَّ قَفَّيْنَا على ءاثارهم بِرُسُلِنَا} أي ثُمَّ أرسلنَا بعدَهُم رسلنَا {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ} أي أرسلنَا رسولاً بعد رسولٍ حتَّى انتهى إلى عيسَى ابنِ مريمَ عليه السَّلامُ والضميرُ لنوحٍ وإبراهيمَ ومَنْ أُرسِلا إليهم، أو مَنْ عاصرهُما من الرُّسلِ لا للذريةِ فإنَّ الرسلَ المُقفَّى بهم من الذريةِ {وءاتيناه الإنجيل} وقرئ بفتحِ الهمزةِ فإنَّه أعجميٌّ لا يلزمُ فيه مراعاةُ أبنيةِ العربِ {وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً} وقرئ: {رآفةً} على فَعَالةٍ. {وَرَحْمَةً} أي وفَّقناهُم للتراحمِ والتعاطفِ بينهُم ونحوه في شأن أصحابِ النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} {وَرَهْبَانِيَّةً} منصوبٌ إمَّا بفعلٍ مضمرٍ يفسرُه الظاهرُ أيْ وابتدعُوا رهبانيةً {ابتدعوها} وإمَّا بالعطفِ على ما قبلهَا وابتدعُوها صفةٌ لها أي وجعلنَا في قلوبِهم رأفةً ورحمةً ورهبانيةً مبتدعة من عندهم أي وفَّقناهُم للتراحم بينهُم ولابتداعِ الرهبانيةِ واستحداثها وهي المبالغةُ في العبادةِ بالرياضةِ والانقطاع عن النَّاسِ ومعناهَا الفعلةُ المنسوبةُ إلى الرَّهبانِ وهو الخائفُ فَعْلانُ من رَهبَ كخشيانَ من خَشِي، وقرئ بضمِّ الراءِ كأنَّها نسبةٌ إلى الرُّهبانِ وهو جمعُ راهبٍ كراكبٍ ورُكبان وسببُ ابتداعِهم إيَّاها أنَّ الجبابرةَ ظهروُا على المؤمنينَ بعدَ رفعِ عيسَى عليهِ السَّلامُ فقاتلُوهم ثلاثَ مراتٍ فقُتلوا حتَّى لم يبقَ منُهم إلا قليلٌ فخافُوا أنْ يُفتتنُوا في دينِهم فاختارُوا الرَّهبانيةَ في قُللِ الجبالِ فارِّينَ بدينِهم مُخلصينَ أنفسَهُم للعبادةِ. وقولُه تعالَى: {مَا كتبناها عَلَيْهِمْ} جملةٌ مستأنفةٌ، وقيلَ صفةٌ أُخْرى لرهبانيةٍ والنفيُ على الوجهِ الأولِ متوجِةً إلى أصلِ الفعلِ. وقوله تعالى: {إِلاَّ ابتغاء رضوان الله} استثناءٌ منقطعٌ أي ما فرضناهَا نحنُ عليهم رأساً ولكنُهم ابتدعُوها ابتغاءَ رضوانِ الله فذمَّهم حينئذٍ بقولِه تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} من حيثُ أنَّ النذرَ عهدٌ مع الله لا يحلُّ نكثُه لا سيَّما إذَا قُصدَ به رضاهُ تعالَى وعلى الوجهِ الثانِي متوجهٌ إلى قيدِه لا إلى نفسِه. والاستثناءُ متصلٌ من أعمِّ العللِ أي ما كتبنَاها عليهم بأنْ وفقناهُم لابتداعِها لشيءٍ من الأشياءِ إلا ليبتغُوا بها رضوانَ الله ويستحقُّوا بها الثوابَ ومن ضرورةِ ذلكَ أن يحافظُوا عليَها ويراعُوها حقَّ رعايتها فما رَعَاها كلُّهم بلْ بعضُهم {فَئَاتَيْنَا الذين ءَامَنُواْ مِنْهُمْ} إيماناً صحيحاً وهو الأيمانُ برسول الله صلى الله عليه وسلم بعدَ رعايةِ رهبانيتِهم لا مجردَ رعايتِها فإنَّها بعدَ البعثةِ لغوٌ مَحضٌ وكفرٌ بَحْتٌ وأنَّى لها استتباعُ الأجرِ {أَجْرَهُمْ} أي ما يخُصُّ بهم من الأجرِ {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون} خارجونَ عن حدِّ الاتباعِ، وحملُ الفريقينِ على منِ مضَى من المراعينَ لحقوقِ الرَّهبانيةِ من قبل النسخِ والمخلينَ بها إذْ ذاكَ بالتثليثِ والقولِ بالاتحادِ وقصدِ السمعةِ من غيرِ تعرضٍ لإيمانِهم برسولِ الله صلى الله عليه وسلم وكفرِهم به ممَّا لا يساعدُه المقامُ.


{ياأيها الذين ءَامَنُواْ} أي بالرسلِ المتقدمةِ {اتقوا الله} فيما نهاكُم عنْهُ {وَءَامَنُواْ بِرَسُولِهِ} أي بمحمدٍ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وفي إطلاقهِ إيذانٌ بأنَّه عَلَمٌ فَردٌ في الرسالةِ لا يذهبُ الوهمُ إلى غيرِه {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} نصيبينِ {مّن رَّحْمَتِهِ} لإيمانِكم بالرسولِ وبمَنْ قبلَهُ من الرسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ لكنْ لا على مَعْنى أنَّ شريعتَهُم باقيةٌ بعد البعثةِ بلْ على أنَّها كانتْ حقَّة قبلَ النسخِ {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} يومَ القيامةِ حسبَما نطقَ به قولُه تعالى: {يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم} {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ما أسلفتُم من الكُفر والمَعَاصِي {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي مبالغٌ في المغفرةِ والرحمةِ. وقولُه تعالَى: {لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} متعلقٌ بمضمونِ الجملةِ الطلبيةِ المتضمنةِ لمَعْنى الشرطِ إذِ التقديرُ إنْ تتقُوا الله وتُؤمنوا برسوله يُؤتكم كَذَا وكَذَا لئلاَّ يعلمَ الذينَ لم يُسلموا من أهل الكتابِ أي ليعلمُوا ولا مزيدةٌ كما ينبىءُ عنه قراءةُ ليعلَم ولكي يعلمَ ولأن يعلمَ بإدغامِ النونِ في الياءِ وأنْ في قولِه تعالَى: {أَن لا يَقْدِرُونَ على شَىْء مّن فَضْلِ الله} مخففةٌ من الثقيلةِ واسمُها الذي هُو ضميرُ الشأنِ محذوفٌ والجملةُ في حيز النصبِ على أنَّها مفعولُ يعلمَ أيْ ليعلمُوا أنَّه لا ينالونَ شيئاً مما ذُكِرَ من فضله من الكفلين والنورِ والمغفرةِ ولا يتمكنون من نيله حيثُ لم يأتُوا بشرطه الذي هُو الإيمانُ برسوله. وقولُه تعالَى: {وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله} عطفٌ على أنْ لا يقدرونَ. وقولُه تعالَى: {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} خبرٌ ثانٍ لأَنَّ، وقيلَ: هُو الخبرُ والجارُّ حالٌ لازمةٌ. وقولُه تعالى: {والله ذُو الفضل العظيم} اعتراضٌ تذييليّ مقررٌ لمضمون ما قبلَهُ وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ الأمرُ بالتقوى والإيمانِ لغير أهلِ الكتابِ فالمَعْنى اتقُوا الله واثبتُوا على إيمانكم برسول الله صلى الله عليه وسلم يُؤتكُم ما وعدَ مَنْ آمنَ مِنْ أهلِ الكتابِ من الكفلينِ في قولِه تعالَى: {أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} ولا ينقصكُم من مثلِ أجرِهم لأنَّكُم مثلُهم في الإيمانينِ لا تفرقون بين أحدٍ من رسلِه. ورُويَ أنَّ مُؤمني أهلِ الكتابِ افتخرُوا على سائرِ المؤمنينَ بأنَّهم يُؤتون أجرَهُم مرتين وادَّعوا الفضل عليهم فنزلت. وقرئ: {لِيَلاَ} بقلب الهمزة ياءً لانفتاحها بعد كسرةٍ، وقرئ بسكونِ الياءِ وفتحِ اللامِ كاسمِ المرأةِ، وبكسرِ اللامِ مع سكونِ الياءِ. وقرئ: {أنْ لا يقدرُوا}. هَذا وقد قيل: لاَ غيرُ مزيدةٍ وضميرُ لا يقدرونَ للنبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأصحابِه والمَعْنى لئلا يعتقدَ أهلُ الكتابِ أنَّه لا يقدرُ النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والمؤمنونَ به على شيءٍ من فضلِ الله الذي هو عبارةٌ عمَّا أُوتُوه من سعادةِ الدارينِ على أنَّ عدمَ علمِهم بعدمِ قُدرتِهم على ذلكَ كنايةٌ عن علمهِم بقدرتِهم عليه فيكونُ قولُه تعالَى وأنَّ الفضلَ بيدِ الله إلخ عطفاً على أنْ لا يعلمَ.
عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم: «مَنْ قرأَ سورةَ الحديدِ كُتبَ من الذينَ آمنُوا بالله ورسلِه».

1 | 2 | 3 | 4